استراتيجية الكذب الدولي

استراتیجیة الکذب الدولی

يختلف الكذب الاستراتيجي الذي يكون لتحقيق مصلحة عامة وطنية عن الكذب الأناني او الكذب الذي يسعى فيه السياسي الكاذب لتحقيق أهداف شخصية انانية او حماية أفراد بعينهم، كالمطامع الشخصية للبقاء في السلطة وتحطيم الخصوم داخلياً او خارجياً.

بقلم ابوالحكم عدنان السعدي

ان القائد قد يطلق أحياناً الأكاذيب النبيلة/ أفلاطون

 كما ويعد الكذب سلوكاً مستنكراً لدى اغلب الناس وهم لا يتقبلون ان يطلق عليهم احد بانهم كاذبون حتى وان كانوا يمارسون الكذب بين الحين والآخر، وعادةً ما يتردد الناس في اطلاقها على احد حتى لو كانوا يعتقدون بانهم مستحقين للتهمة، فنجدهم يستخدمون لغة اقل حدة في ذلك، مثال على ذلك عضو مجلس الشيوخ جون كيري عندما كان منافساً للرئاسة الامريكية ضد جورج دبليو بوش، وصف خصمه" بانه فشل في قول الحقيقة عن العراق وانه قاد الشعب الامريكي الى الطريق الخطأ" ولم يكن قادراً على وصفه بالكذاب!.

يرى جون جي ميرشيمر بأن هنالك مبررات استراتيجية للقادة كي يكذبوا في بعض الأحيان على دول اخرى وعلى شعوبهم أيضاً اي ان الكذب الدولي ليس فعلاً خاطئاً دائماً وإنما في الحقيقة ينم عن فِراسة وقد يكون ضرورياً بل فاضلاً في بعض الظروف.

كما ويبدو ان القادة اكثر ميلاً الى الكذب على شعوبهم في الشؤون السياسية الخارجية من كذبهم على الدول الأخرى، وتجده في الدول الديمقراطية التي لديها سياسة خارجية طموحة وتميل الى شن حروب باختيارها اي عندما لا يكون هناك خطر واضح يهدد مصالحها، وينطبق هذا الوصف على الولايات المتحدة الامريكية في السبعين السنة الاخيرة وفِي روسيا في حالات اقل.

الكذب بين الدول:
أطلق هنري ووتون الدبلوماسي البريطاني في القرن السابع عشر تعليقاً مشهوراً "بان السفير رجل امين ارسل الى الخارج ليكذب من اجل مصلحة دولته". وبحسب هذا المفهوم فان الدول تكذب على بعضها لاعتقادها بان الكذب يفيد مصلحتها الوطنية، بيد ان هذا التعليق مبالغ فيه لانه يوحي الى ان الدبلوماسي ورجال الدولة يمارسون الكذب على بعض طوال الوقت، بينما واقع الحال ان القادة السياسين وممثليهم الدبلوماسيين يتعاملون بالصدق اكثر من الكذب. وحتى عندما يضطر احدهم الى ان يخدع الاخر فانه يلجأ في الأغلب الى الكتمان والإخفاء لا الى الكذب الصريح، فالسرية تقليد تتبعه الدول لتطوير استراتيجيتها وأسلحتها للتفوق على منافسيها.

وقد تلجأ الدول الى اُسلوب الخديعة وبضمنه الكذب لكي تكون لها الأفضلية على عدو محتمل في عالم محفوف بالمخاطر ، فيضطر القادة لذلك لحماية وبقاء دولهم، وقد اوضح ذلك مساعد وزير الدفاع في حكومة جون كينيدي أرثر سلفستر حين نشبت أزمة الصواريخ الكوبية بين امريكا والاتحاد السوفياتي قائلاً:" ان حق الدولة الأصيل في ان تكذب عندما تواجه كارثة نووية هو امر أساس".

أنواع الكذب الدولي:
يكون بأشكال مختلفة ويتبع منطقاً مختلفاً نذكر جملة منها ليس بالحصر على الرغم من ان أغلب أنواع الكذب بين الدول سيدخل ضمنها:

النوع الاول:
مبالغة الدول او القادة في تصوير قدرات دولهم بقصد ردع العدو او حتى إخضاعه، على سبيل المثال كذب هتلر بشأن قدرات جيشه في الثلاثينات، فقد حاول تضخيم قوة الدفاع الألمانية (فيرماخت-Wehrmacht ) لتثبيط بريطانيا وفرنسا عن عدم التدخل في اعادة تسليح المانيا.

النوع الثاني:
يكذب القائد للتقليل من قدرات جيشه الحربية او التقليل من سلاح حربي معين، او حتى إخفائه عن الدول المنافسة، بغية تحاشي استفزاز او هجوم يهدف لتدمير تلك القدرات او لمنع دولة اخرى من ان تجبره للتوقف عن تسليح وتطوير قوته. ففي الحرب العالمية الاولى مثلاً اخترعت بريطانيا الدبابة بشكل سري تماماً لكي تكسر حالة الجمود العسكري على الجبهة الغربية، ولكي تخفي ذلك السلاح عن الألمان قبل استخدامه ضدهم في ساحة المعركة فقد أطلقت القيادات البريطانية بأن هذا صهريج لنقل المياه للخطوط الأمامية وليست مدمرة حربية او سفينة برية، وكان هذا الاسم سراً بينهم، ومن هنا اخذت الدبابة اسمها (Tank) وكتبوا على كل دبابة عبارة (بعناية الى بيتروغراد) بحروف روسية وبارتفاع للتمويه.

النوع الثالث:
عندما يخفي زعماء بلد ما نواياهم العدوانية تجاه دولة ما للتمويه على نواياهم في الهجوم كمحاولات هتلر بين العامين ١٩٣٣ و١٩٣٨بإقناع الدول الأوربية بانه ملتزم بالسلام في الوقت الذي كان مصمماً على الحرب، وقد صرح في العام ١٩٣٤ " ان كان الامر يتعلق بألمانيا فلن تكون هناك حرب اخرى، فألمانيا تدرك جيداً اكثر من اي دولة اخرى، الأضرار والمآسي التي تسببها الحرب وفِي اعتقادنا ان مشاكل ألمانيا الحالية لا تحل ولا تحسم بواسطة الحرب" وكشف التاريخ ان هذا التصريح وغيره كان كذباً صريحاً وتمويهاً.

النوع الرابع:
عندما تحاول دولة ان تؤثر في تصرفات ونشاط دولة اخرى منافسة وذلك عن طريق التهديد بالهجوم عليها حتى ان لم تكن هنالك نية حقيقية بشن الحرب،والغرض من هذا التهديد الوهمي هو اخضاع وأجبار العدو على القيام بشيء لم يكن في الأساس يريد ان يقدم عليه. استخدمت هذا النوع حكومة الرئيس ريغان عام ١٩٨٦ عندما شعرت بالقلق من نوايا ارهابية محتملة من الزعيم الليبي معمر القذافي، ولمنع تحققها نشر البيت الأبيض تقارير كاذبة بشان ضربة اخرى سوف توجه الى الرئيس القذافي بقصف أمريكي وربما بانقلاب عسكري لإقصائه عن الحكم، على الرغم من ان الولايات المتحدة الامريكية لم تكن تنوي توجيه ضربة اخرى الى ليبيا، ولكن قصدت من هذا التهديد توقف دعم القذافي عن نشاطه لدعم الاٍرهاب.

النوع الخامس:
عندما يؤدي قلق دولة ما من ان حلفاءها لن يأخذوا خطر الدولة المنافسة لها مأخذ الجد، فتلجأ الى الكذب عبر المبالغة في إمكانيات تلك الدولة الحربية او سلوكها العدواني حتى تثير انتباه حلفائها الى الخطر وقد لجأت حكومة بوش الى هذا النوع من الكذب في العام 2005 عندما شعرت بان الصين واليابان وكوريا الجنوبية لم يقدروا الخطورة التي تشكلها كوريا الشمالية، ولكي تستثير انتباههم بعثت بموظفين من مجلس الامن الوطني الى اسيا ليدّعوا بان كوريا الشمالية قد باعت الى  ليبيا مادة اليورانيوم (يورانيوم هيكسافلورايد) المكون الأساس لصناعة أسلحة نووية، بيد انه لم يكن صحيحاً فقد كانت باكستان وليست كوريا الشمالية التي باعت المادة.

النوع السادس:
يلجأ القادة الى الكذب للخروج بافضل النتائج لمصلحة دولهم في اثناء التفاوض بشأن الاتفاقيات والمعاهدات الرسمية، ومنها كذب اليونان عندما حاولت ان تغطي على عجز ميزانيتها ليتسنى لها الدخول في منطقة اليورو، فوفق قواعد الاتحاد الأوربي يسمح للدولة العضو بان تستخدم اليورو كعملتها إذا استطاعت ان تحافظ على ميزان العجز عند اقل من ٣ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي وهذا ما ادعته اثينا، اما في الحقيقة كان عجزها اكثر من ذلك بكثير ، وبهذه المغامرة استطاعت ان تستخدم اليورو كعملة لها في العام 2001.

الخلاصة:
من الضروري تاكيد انه لا توجد حالة واحدة مما استعرضناه كذب فيها رئيس او رجاله لتحقيق مكسب شخصي، بل كانوا يعتقدون ان دافعهم هو المصلحة الوطنية، ويكثر الكذب في حالة الأزمات او في حالة الحرب، غير ان ذلك لا يعني انهم تصرفوا بحكمة ولكن تظل الحقيقة هي ان هنالك أسباباً استراتيجية تحمل القادة على الكذب على شعوبهم وعلى الدول الأخرى (كقضية خاشقجي الراهنة) وبالتالي فهو جزء لا يتجزأ من العلاقات الدولية، وفِي هذا السياق يقول تشرشل: " انه في زمن الحرب يصبح الصدق شيئاً ثميناً، لابد ان يحاط بسياج من الأكاذيب"ويبدو ان القادة والشعوب قد تعايشوا في ظل هذا المبدأ فيسامح القائد من قبل الشعب في حال كذبه في السياسة الخارجية ونجاحه في المهمة اما في حال فشله فيعاقب بعدم انتخابه لفترة رئاسية ثانية.

/انتهى/

الأكثر قراءة الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
أهم الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
عناوين مختارة