مصطفى قطبي : العنصرية المتجدّدة في أمريكا... إلى متى ؟


مصطفى قطبی : العنصریة المتجدّدة فی أمریکا... إلى متى ؟

شدد الباحث المغربي و الخبير الستراتيجي مصطفى قطبي على ان العنصرية عند الأمريكيين متجذرة ، ولا يمكن تجاوزها ، حتى لو كان رئيسهم باراك أوباما من السود ، و قد تدفع سلوكيات العنصر الأبيض العنصرية و التمييزية بفئات الشعب الأميركي المظلومة إلى إطلاق صيحتها الحقيقية ، و تشكيل حراك شعبي واسع ، تفضح به النظام العنصري الأميركي من الداخل، وتعري الشعارات التي استخدمت أمريكياً كسلعة تجارية تبيع وتشتري بها ليس أكثر.‏

و كتب هذا الخبير مقالا خص به وكالة "تسنيم" جاء فيه : لقد كشفت الأحداث المتواصلة داخل الولايات المتحدة ، بخصوص قتل مواطنين، من أصول إفريقية، وقرارات محاكم أميركية منحازة مع القاتل (الأبيض)، سجل العدالة الأميركية الرسمية . وقد عبّر الكشف عن فضيحة جديدة للإدارات الأميركية وسياساتها الداخلية والخارجية، وأعلنت مجريات العدالة والشعارات البراقة التي ترفعها الإدارات الأميركية وتحاسب غيرها فيها طبيعة العدالة الأميركية وانحيازها الحقيقي واستمرارها في ممارساتها المخلة بالدستور الأميركي والقوانين الأخرى التي تتباهى بها الإدارات الأميركية، وهي بمجملها تعكس أزمة العدالة الأميركية والقانون ولاسيما ما يتعلق بالعنصرية والعرقية والتاريخ الدامي لها .
فسجل أمريكا في الداخل غير ناصع كما يتصور البعض، فالتفرقة العنصرية ظلت سائدة حتى أواخر الستينيات، وبعد موت مارتن لوثر كينغ، داعية حقوق الإنسان الشهير، لا تزال بصمات التمييز العنصري حاضرة في الأحكام، كما تشهد تقارير منظمات حقوق الإنسان والعفو الدولية حتى اليوم.
للبيض أحياؤهم النظيفة الراقية ، وللسود شوارعهم وأحياؤهم الشعبية التي قد تكون أدنى مستوى من بعض دول العالم الثالث، للبيض مدارس، وللسود مدارس أخرى مختلفة، ومع أن القانون يسمح للأسود أن يلتحق بمدارس البيض، والعكس، لكن الواقع غير هذا، فالواقع يقول إن الأسود يعيش غريباً وسط مجتمع البيض، ينظر إليه في كل لحظة نظرة دونية تماماً، ونتج عن ذلك شعور شديد بالكراهية في قلوب السود، ليس للبيض فقط، ولكن للحياة بكاملها، للبيض وللمجتمع ، وللعالم كله، ولهذا نجد معدلات الجريمة لدى السود عالية جداً، فأكثر من 80 في المائة من السجناء في  أمريكا هم من السود، وجرائم القتل والمخالفات الكبيرة للقانون يقوم بها السود.
كل هذا بسبب العنصرية و التمييز على أساس اللون والجنس ، وحتى في الجيش تبرز العنصرية بقوة وهي : نتاج للعنصرية السائدة في المجتمع، والناظر إلى الجيش الأمريكي يجد إما أبيض عنصرياً يحتقر كل من هم دونه، أو أسود حاقداً على كل شيء، وكلاهما يستغل الفرصة لكي يخرج ما ملأ صدره من الحقد، ولهذا يجدون ـ جميعاً ـ في تعذيبهم للشعوب الأخرى حلاً لعقدهم النفسية، وعلى الرغم من كل ذلك لا ينسى الأمريكيون طريقتهم البارعة في تجميل الصورة، وإظهار أنفسهم بأنهم غير عنصريين على الإطلاق، وذلك من خلال الأفلام والإعلام، حيث تظهر في أفلامهم صداقة الأبيض مع الأسود ، وليس هناك مانع أن يكون وزير الخارجية من السود، كل ذلك من أجل الظهور بالمظهر الحضاري اللائق، ومن أجل كسب الأصوات الانتخابية، لكن الفرق بين البيض والسود في صميم المجتمع الأمريكي...!
لقد ترسّخت خلال التاريخ الأمريكي خمسة ثوابت هي : (عقيدة الاختيار الإلهي، التفوق العرقي والثقافي، الدور الخلاصي للعالم، قَدرية التوسع اللانهائي، وحق التضحية بالآخر). ولذلك، فقد أباد البيض في مستعمراتهم الجديدة نحو 5.18 ملايين هندي دون أن يرف لهم جفن أو يعانوا من أي وخز للضمير.
وفي الوقت الذي كانت الأمم المتحدة تصدر مواثيق حقوق الإنسان مركزة على مفاهيم أكثر رقياً للحرية الفردية من مجرد حق العمل والمساواة والمعتقد، كان أصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة حتى عام 1955 لا يستطيعون الجلوس في الباصات العامة، وكانت القوانين تقضي بعدم جلوس الزنوج في الباصات التي تقّل البيض. وكانت قائمة المطالب التي رفعها السود عام 1955 في مدينة مونتغمري الجنوبية مجرد السماح لهم بالجلوس في الباصات العامة ولو بالجلوس في المؤخرة، وأن يعاملوا بتهذيب ولياقة كمعاملة البيض.
والشاهد اليوم، أنّ ما تشهده المدن الأمريكية من احتجاجات، من فترة لأخرى، هو بمثابة نسخة طبق الأصل عن جولة حدثت في أواخر الستينيات في عهد الرئيس ليندون جونسون، وانفجار الغضب الأسود بعد أن قام البيض بتحقيرهم وإذلالهم، مما اضطر الرئيس الأمريكي لأن  يدفع بالجيش الفيدرالي إلى الشوارع ''لضبط الأوضاع'' في ديترويت وشيكاغو ونيويورك، ومدن متعددة أخرى، وكانت الخسائر المادية بمليارات الدولارات إلى جانب عشرات القتلى والجرحى والمفقودين.
ورغم تبجح الإدارات الأميركية بالحرية والدفاع عن حقوق الإنسان فإن المجتمع الأمريكي لا يزال يعاني حتى اليوم من مظاهر متخلفة و مشاكل عديدة على رأسها العنصرية. وعلى الرغم من أنّ الدستور الأميركي يمنع التفرقة بين الناس على أساس اللون أو الجنس أو الدين أو غير ذلك إلا أنّ العنصرية مغروسة في قلب معظم الأميركيين.‏
ومما لا شك فيه أن العنصرية قائمة حتى الساعة حتى في قلب واشنطن من الناحية السكانية والتوزيع الديموغرافي، وعلى غير المصدق أن يذهب إلى العاصمة الأمريكية ليجدها منقسمة بشكل غير عادي رغم أن ثلثي سكانها من الأمريكيين الأفارقة، ذلك إن حديقة ''روك كريك'' تشطر واشنطن شطرين من الشمال إلى الجنوب، ففي  الشمال من العاصمة 90 في المائة من البيض، وفي الجنوب 90 في المائة من السود، وهذا أمر يستتبعه مستوى خدمات إما متميز عند البيض، أو متدنٍ عند السود، وحتى العام 1964 كانت صكوك الملكية العقارية في شمال غرب واشنطن تتضمن تعهداً يمنع بيع ذلك العقار إلى أمريكي من أصل إفريقي، كما يقول الدكتور جيمس زغبي رئيس المعهد العربي الأمريكي في واشنطن.
ومما لاشكّ فيه، أنّ حديث الأرقام يقودنا إلى القطع بوجود إشكالية حقيقة اليوم في الولايات المتحدة، فقد اعترف تقرير صادر عن مكتب التحقيقات الاتحادية FBI عام 2009 بتزايد وقوع جرائم الكراهية في أمريكا ، ووصل الرقم إلى 5 آلاف جريمة، و542 ضحية، وذكر التقرير أن هناك نسبة 72.6 في المائة من الجرائم التي ارتكبت بدافع الكراهية لعرق ما كانت ضد السود بالمجتمع.
التقرير نفسه يثبت وجود تفاوت كبير في الدخل بين السكان البيض والسود، ففي حين كان متوسط الدخل السنوي للأسر الأمريكية البيضاء يبلغ نحو 49 ألف دولار، كان متوسط دخل الأسر الأمريكية من ذوي الأصول الإفريقية يبلغ نحو 30 ألف دولار، وفي حين يبلغ عدد سكان أمريكا السود 13 في المائة من تعداد الأمريكيين فإن 12.7 في المائة منهم يعيشون تحت خط الفقر.
والسؤال الأهم و الأكثر خطورة هو : هل فشلت السياسيات الأمريكية بعامة ، وسياسات ''باراك أوباما'' بخاصة في توحيد الشعب الأمريكي؟ وهل لا تزال نار العنصرية مشتعلة في النفوس الأمريكية بعد نحو خمسة عقود من الاعتراف بالأمريكيين من أصول إفريقية كمواطنين كاملي الأهلية في ستينيات القرن المنصرم ؟
يبدو و من الأسف أن العنصرية لا تزال ضاربة جذورها هناك ، و أن هناك من الدلائل ما يؤشر إلى ذلك بقوة، فمشاهد العنصرية الأمريكية يبدو أنها لا تتوقف عند حدود العوام من الأمريكيين بل تتجاوزهم حتى إلى النخبة الأمريكية وهذا ما تجلى بشكل كبير في زمن انتخابات باراك أوباما، فقد اتخذ الجنرال المتقاعد ووزير الخارجية في عهد بوش الابن ''كولن باول'' موقفاً داعماً لباراك أوباما كما فعل في 2008 وهو الأمر الذي دعا ''جون سنونو'' القيادي الجمهوري البارز والمؤيد بشراسة ل‍ ''ميت رومني'' لأن يعلق مشيراً إلى أن باول أيد أوباما لأنه ''من نفس عرقه'' أي أسود مثله، الأمر الذي يدعونا للتساؤل : ''هل الأمر زلة لسان'' أم أن العقل الباطني كثيراً ما يفضح صاحبه في غفلة من الوعي واليقظة؟

وتطرح أعمال العنف ومظاهرات الاحتجاج التي تشهدها بين الفينة والأخرى عدة ولايات أمريكية، عدة تساؤلات  جذرية: هل كان اختيار ''باراك أوباما'' وهماً أمريكياً أعطى انطباع بانتهاء عصر العنصرية هناك؟ يذهب عدد من المحللين إلى أن ما جرى يثبت أن انتخابات الشعب الأمريكي بصفة عامة، والبيض بصفة خاصة لأوباما، لم يأت نتيجة لنجاح المجتمع الأمريكي في الارتقاء إلى مرحلة ''ما بعد العنصرية''، أو حتى بسبب ''كاريزما'' أوباما، وإن كان لها دور في نجاحه بالتأكيد، وإنما يثبت أنه جاء لتحسين صورة أمريكا في العالم، وخصوصاً بعد تورطها في العديد من الحروب في أفغانستان والشرق الأوسط والصومال، ومساندتها المطلقة لـ«إسرائيل» وتسببها في نشوب الكثير من الحروب والثورات حول العالم.
واليوم فالمشكلة الأكبر التي تواجه الولايات المتحدة ليست في عجز حكوماتها عن التعامل بنجاح مع هذه الأزمة العنصرية ذات الجذور التاريخية والنفسية والعقائدية المتغلغلة في المجتمع، ولكنها تكمن أيضاً في فجوة الثقة المتسعة بين  المواطنين السود والحكومات عموماً، حتى ولو كان الجالس في البيت الأبيض رئيساً من بني جلدتهم.
إذن . هكذا تمارس أميركا العنصرية بحق مواطنيها قبل غيرهم في الوقت الذي تتشدق فيه بالدفاع عن حريات الشعوب وحقوق الإنسان والديمقراطية ومحاربة الديكتاتورية فكيف سيصدقها العالم، وهي تمارسها اليوم في أبشع صورها ضد مواطنيها السود، وارتباطاً بذلك نستطيع اليوم تفسير مواقف أميركا من كل موقف أممي يحارب العنصرية في العالم، ما يلخص مفارقة كبيرة في ما تدعيه الولايات المتحدة من حرصها على الحرية و الديمقراطية ومناهضة كل أشكال التمييز العنصري من جهة وما تمارسه على أرض الواقع من نفاق سياسي وازدواجية في التعامل مع هذه القضايا من جهة أخرى.‏

الأكثر قراءة الأخبار الدولي
أهم الأخبار الدولي
عناوين مختارة