مصطفى قطبي : «ديمقراطية الشرق الأوسط» في المزاد العلني ... ؟!


مصطفى قطبی : «دیمقراطیة الشرق الأوسط» فی المزاد العلنی ... ؟!

للمرء أن يتأمل بتأنِ و وضوح رؤيا ، متسائلاً : أي من دولنا في الشرق الأوسط حققت الديمقراطية بالطرق الإعجازية (أي بين ليلة وضحاها) عن طريق التمردات أو الاحتلال الأجنبي أو الارتزاق من الأجنبي ، و أي من هذه الدول و الشعوب الشرق أوسطية تحيا اليوم ديمقراطية حقة من النمط الذي يحياه البريطانيون أو الفرنسيون أو حتى الهنود ؟

و في الرد على هذه التساؤلات و أمثالها .. كتب الباحث و المغربي و الخبير الستراتيجي "مصطفى قطبي" في مقال خص به وكالة "تسنيم" ، قائلا :

الجواب ، بطبيعة الحال ، هو ، لا توجد أية ديمقراطية شرق أوسطية يمكن أن تقارن بالديمقراطيات الأوروبية الغربية أو الأميركية أو حتى الآسيوية . وعلة ذلك تكمن في أن الديمقراطية تشترط مسبقاً التعامل مع الشعوب على أساس المواطنة الحقة فقط، وليس على أسس أخرى، كالطبقة الاجتماعية، أو العائلة أو الانحدار القبلي ، أو الطائفة أو الجنس !
انظروا إلى خريطة الأنظمة العربية تجدوا أن الأنظمة الاستبدادية من قطر وحتى في البحرين مروراً بالسعودية والأردن وغيرها تحظى باستقرار أساسه مباركة ودعم أميركي مطلق، أما بالنسبة للأنظمة السياسية التي تتحول إلى الديمقراطية أو تعمل على ترسيخها فهي عرضة للغضب الأمريكي ، و من المؤكد أن الغضب الأمريكي على دمشق بدأ ينفجر خصوصاً عام 2007 عندما أعلن الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم آنذاك توجّهاً حقيقياً نحو البدء بمشروع الإصلاح الديمقراطي النوعي ، عندها بدأت عملية عرقلة الجهود السورية نحو دسترة الديمقراطية عبر تدخّلات وأزمات متتالية ، ثم كان التفجير الحقيقي عام 2011 ومازال مستمراً لأنه ممنوع على الشعوب العربية أن تحكُم... الاستبداد هو حليف واشنطن الموثوق... هذه هي القاعدة التي لا تخفيها واشنطن لأن دعمها لأنظمة الاستبداد واضح وعلني وقوي، كما أن غضبها على الأنظمة التي تتجه بخطى ثابتة نحو الديمقراطية واضح وعلني وقوي أيضاً .
إنها حال تخص عالم الشرق الأوسط المضطرب على نحو خاص ، فهي لا تنطبق على الكتل البشرية الكبرى كأوروبا أو الهند وباكستان، بيد أنها تنطبق على العالم العربي الذي كما يبدو أنه قد ابتلع جرعة أكبر مما ينبغي من الديمقراطية، كي تفقد الجماهير توازنها ورؤيتها، وكي يفتح المشروع الديمقراطي الأغطية من على ما كانت الشعوب في الشرق الأوسط تخفيه من أمراض متنوعة ، ومنها سيادة روح القبلية والطائفية والنزوع إلى الثأر والانتقام وما خفي من نوازع الفساد وسرقة المال العام والعمل للصالح الخاص، للأسف .
وبإمكاني الإتيان بمئات التصريحات لرؤساء و ملوك ومسؤولين عرب ، تمتدح الديمقراطية، وتجد فيها الحل الأهم لبناء الدولة الحديثة، وبإمكاني أيضاً الاستدلال بمئات الوقائع والأحداث التي تؤكد أن هؤلاء يتحدثون عن الديمقراطية عندما يجدون فائدة بين طياتها لنظام الحكم القائم في بلدانهم .. إلا أن الأمور سرعان ما تنقلب رأساً على عقب في أول خضة يتعرضون لها ، والفرق يبرز هنا بين الحاكم والمحكوم ، فالمحكوم كما يرى أرسطو طاليس (مدني بطبعه) ، و الحاكم الذي يتحدث باستمرار بالديمقراطية ، تكتشف في نهاية المطاف أو منتصف الطريق ، أنه من الحكام الذين قال عنهم العالم الاجتماعي ''د. علي الوردي'' يصفهم بقوله (جميع السلاطين الذين يدعون إلى طاعتهم، وصلوا إلى الحكم عن طريق تحريك الفتنة وتفريق الكلمة) .
أما النموذج الآخر فيمكن وصفه بالحكام الذين أقنعوا شعوبهم، بأنهم يمارسون الابتزاز والسرقة والهيمنة ليجلبوا الثروات لهم ، وهذا الأساس الذي تعتمده نظم الاستعمار القديم والحديث، وإلا كيف يقنعون ملايين الجنود والضباط للذهاب إلى دول وقارات تبعد عنهم آلاف الأميال، وهذا ينطبق على التجارب الأسبانية والبرتغالية والرومانية والبريطانية والفرنسية وغيرها من التجارب الاستعمارية وفي العصر الحديث الأميركية .
وإذا تحدثنا عن مئات الوقائع و الأدلة التي يتباهى بها رؤساء ووزراء ومنظرون للديمقراطية ، فلا نحتاج إلى الكثير من الجهد و العناء ، فمجرد جمع بياناتهم وخطبهم ، التي غالباً ما يتفاعل معها الجمهور(المدني)، ويصفق لها بحماس، باعتبارها البوابة الأولى والأهم للتطور والتقدم والضمانة لحماية الناس من الانتهاكات التي قد تطول حقوقهم، وبدون أدنى شك أن الوعي في هذه النقطة بالذات يؤدي دورا مؤثراً، وبسبب قناعة بعض النخب بعدم وجود أرضية حقيقية لكل الوعود والكلام الذي يصفق له الناس، فإن التشكيك الذي قد يرقى إلى درجة عدم القناعة أسس لـ(المعارضة) ذات التوجه الثقافي والفكري، وهو الأكثر تأثيراً على المدى البعيد من كل المعارضات السياسية ذات النزعة المصلحية، التي تبني معارضتها بغرض الوصول إلى الحكم، وليس هناك هدف يتعلق ببناء الدول الحديثة ، بما فيها احترام الإنسان.
ونأتي على الوقائع والأحداث التي تدلل على أن الديمقراطية ليست بأكثر من رداء يتحدث به الحكام عندما يكون مناسباً للفصل الذي يعيشون ، فإذا كان شتاء .. فإنه يكون سميكاً ، وإذا صيفاً .. فهو الفضفاض الطري . وأعتقد بأن أكثر دولة تحدثت في خطابها الجمعي عن الديمقراطية خلال العقود الماضية ، هي الولايات المتحدة ، فظهرت الأدبيات السياسية التي تبرز أهمية الديمقراطية في بناء الأمم والمجتمعات ، ووظفت مؤسسة إعلامية عملاقة هي (هوليوود) للإنتاج السينمائي لتسويق النموذج الأميركي في الديمقراطية، وزرعت قناعات واسعة لدى الرأي العام العالمي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان...
وإذا أردنا أن نوسع دائرة الأمثلة التي تؤكد كذب الديمقراطية في الممارسة وأنها تحتل الواجهة في الشعارات فقط ، فإن دول أوروبا قد سارعت إلى خلع لباس الديمقراطية التي طالما تباهت به بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ، ووضعت جميع العرب والمسلمين في قائمة المجرمين والقتلة، وشمل ذلك بطبيعة الحال الحاصلين على جنسية تلك الدول، وقد يكون أولادهم لا يتكلمون حتى لغة بلدانهم، فتم إطلاق أجهزة المخابرات في كل الدول الأوروبية وأميركا وكندا والدول العاملة في دائرة استخباراتهم للتعاون فيما بينها لمضايقة الجاليات العربية والمسلمة ، كما أن ذلك لا يستثني المسيحيين الوافدين من الدول العربية والإسلامية .
إن ما يؤلم هنا ليس فقط ما حلّ بالعراق ، و فلسطين و ليبيا و تونس و اليمن وسوريا على سبيل المثال، ولكن ما نقرأه يومياً من قصص مضللة تقلب حقيقة ما حدث فتحول الضحية إلى قاتل ، والقاتل إلى ''ديمقراطي'' ساع إلى حياة أفضل لهؤلاء الذين يدمر حياتهم ومستقبل أوطانهم وأطفالهم !
المشكلة اليوم هي أن لغتنا و قيمنا وأفكارنا قد أصبحت أداة بيد الآخر للتعبير عنا نحن العرب ، وعما يرتكبه ضدها في ديارنا، بينما نجلس نحن متفرجين متلقين لأخبارنا منه، ومطلعين على عذاباتنا من وجهة نظره، وعلى قيمنا من خلال رؤيته المليئة بالكراهية العنصرية لها. والخطورة هنا، هي أن نستمر في هذا الوضع السلبي إلى حد الاضمحلال، وإلى أن لا يبقى شيء منا يشير إلى حقيقة واقعنا، بل تبقى القصة التي كتبها الغزاة عنا، وتندثر قصصنا نحن العرب تحت وطأة الإنتاج الفني، واللغوي، والسياسي، الذي تنتجه الجهات المدجّجة بالكراهية ضد المسلمين ، التي تروّج نفسها بأنها  ''ديمقراطية'' وقادمة لتحرير الشعوب من ربقة التخلف والاستبداد!
فبالإضافة إلى وصف كلّ ما يجري أمام أعيننا بلغة كاذبة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة ، يعمد المستعمرون اليوم إلى توجيه ضربة قاسية للغتنا و ثقافتنا وكل ما نعتز به من إرثنا بدعوى الحداثة و التحضّر وغسل أدمغة البعض من أبناء جلدتنا ليتحولوا إلى جلادين للذات و مروجين للكراهية الغربية ضد العرب.
من جهة أخرى ، يبدو التوجه الاقتصادي للحكومات الجديدة لدول الربيع العربي، نسخة طبق الأصل عن سابقاتها في تقديس النيوليبراليية ، و الإرتهان لصندوق النقد الدولي، وهو ما وجد فيه الغرب فرصة أخرى لاستمرار عملية النهب المنظم، وإن كان اليوم يتستر بستار القروض وإعادة الإعمار، ما يعني استمرار، بل وزيادة ، ارتباط الاقتصاد الوطني للخارج سواء كان عربياً أم أجنبياً، الأمر الذي يمنع بدوره قيام ديمقراطية حقيقية، حيث لا ولن يسمح الغرب بها في دول تابعة، كي لا يخرج حاكم منتخب بحق، ليطالب بثرواته الوطنية وحقه في اختيار الطريق الاقتصادي المناسب ، بعيداً عن وصفات الخراب العالمية، كما لن يسمح المال الخليجي بذلك لأسبابه الوجودية المعروفة، وبالنتيجة لا ديمقراطية حقيقية دون استقلال اقتصادي ناجز، والعكس صحيح أيضاً.
فلا السوق السياسية المنفتحة والقادرة على المنافسة هي الديمقراطية، ولا اقتصاد السوق يشكل في حد ذاته مجتمعاً صناعياً ، بل إن في وسعنا القول ، في الحالتين، إن النظام المنفتح سياسياً واقتصادياً شرط ضروري من شروط الديمقراطية أو التنمية الاقتصادية، لكنه غير كاف.
صحيح أن لا وجود لديمقراطية من دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ومن دون تعددية سياسية، ومن دون حرية تعبير، لكننا لا نستطيع الكلام عن ديمقراطية إذا كان الناخبون لا يملكون إلا الاختيار بين جناحين من أجنحة الأوليغارشية أو الجيش و/أو جهاز الدولة ، لأن العولمة الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تتساهل تجاه انضمام دول مختلفة لاقتصاد السوق، منها دول تسلطية، ومنها دول ذات أنظمة تسلطية آخذة بالتفكك، ومنها دول ذات أنظمة تمكن تسميتها ديمقراطية، أي أن المحكومين فيها يختارون بملء إرادتهم وحريتهم من يمثلهم من الحاكمين .
وهنا أحاول الربط بين الغياب السياسي التام للدول العربية على المستوى الدولي، إلا حين تحتاجهم متطلبات العلاقات العامة الأمريكية، وبين التغييب الرسمي المتعمد للغة والتراث والثقافة...
فإذا لم يكن الإنسان نتاج لغته وثقافته ومكونات حضارته فماذا يكون...؟ وإذا لم تكن الديمقراطية تهدف إلى رفع مستوى حياة الإنسان وإسعاده والارتقاء بكلّ أوجه حياته فماذا تكون...؟
من الضروري التأكيد على أنه لا توجد وصفة سحرية جاهزة لنجاح عملية التحول الديمقراطي، لكن بالنسبة لتجربة دول ''الربيع العربي'' التي تعيش مرحلة الانتقال نحو بناء نظام ديمقراطي جديد، من المفيد جدّاً استلهام العديد من الدروس التي يمكن تعلمها عربياً من تجارب الانتقال الناجحة على الصعيد العالمي، وقد تمثلت أهم شروط ومقومات النجاح في: الحفاظ على الوحدة الوطنية وترسيخها ما يحول دون حدوث انقسامات وصراعات داخلية خلال مرحلة الانتقال ، ولاسيما نبذ ومحاربة العنف السياسي ، وحسن تصميم المرحلة الانتقالية وإدارتها من خلال التوافق بين الفاعلين السياسيين الرئيسين على خريطة طريق واضحة لتأسيس نظام ديمقراطي.
بما يعنيه ذلك من التوافق على صيغة النظام السياسي المستهدف ، و مراحل الانتقال، والترتيبات المؤسسية والإجرائية الأكثر ملاءمة لظروف وخصوصيات الدولة والمجتمع، منعاً لإعادة إنتاج الاستبداد، أو إعادة استبدال ديكتاتورية سابقة بديكتاتورية دينية جديدة .
وأخيراً وليس آخرا ، إن المناداة بقيام حكومات وأنظمة ديمقراطية مسألة أصبحت مضحكة للجماهير العربية ، وبخاصة عندما تصدر مثل هذه الدعوات عن مشيخات ودول الخليج (الفارسي) مثل قطر والسعودية ، هذه الدول والمشيخات تنفذ أجندة خارجية، فهي بالأساس لا تؤمن بالديمقراطية، بل تعتبر الديمقراطية الحقيقية من ألد أعدائها ، كونها تحمل خطراً على أنظمتها الاستبدادية كذلك من السذاجة الاقتناع أن الأنظمة السياسية العربية الجديدة ستجعل المجتمعات العربية أقرب إلى الديمقراطية، وهي خدعة يريد الغرب أن يسوق لها لخدمة وضمان استمرار مصالحه في المنطقة وبالدرجة الأولى منها الهيمنة على مقدراتها من نفط وغاز، وحماية أمن «إسرائيل» باعتبارها قاعدة متقدمة لهذا الغرب في المنطقة بأسرها.

الأكثر قراءة الأخبار الدولي
أهم الأخبار الدولي
عناوين مختارة